جيجل مدينة الوطنية في قلب النار
الفصل الحادي والعشرون
كعولة تونس، مناضلة من الرعيل الأول، وككل النساء المناضلات في المدينة، كانت شجاعة جدا وملتزمة في تلك العمر، كانت شأنها شأن جميع المناضلات في الجزائر العاصمة وقسنطينة عازمة على القيام بواجبها الثوري عن قناعة.
بعد محاولة القيام بعملية وسط المدينة انتهت بالفشل تم القبض عليها من طرف الشرطة تعرضت في مقر هذه الأخيرة لتعذيب فظيع ومهين وتجاوزات سادية لا إنسانية.
ومع ذلك مكنّها ايمانها وقناعتها من الصمود والمقاومة والتزام الصمت وعدم الكشف عن أية معلومات، أربكت مقاومتها رجال الشرطة الأكثر قساوة الىى درجة أنهم انتهوا الى إطلاق سراحها.
التحقت بمجرد تحريرها بالكفاح في الجبال الى أن سقطت في ميدان الشرف وهي التي كانت تبحث عن الموت شهيدة في سبيل الوطن.
لكن وقبل أن يطلق سراحها، كانت قد شهدت عملية تعذيب مناضلة أخرى انتهت في الأخير الى الانهيار ولأنها لم تكن تعرف ماذا تقول كونها لا تعرف شيئا، تحدثت عن سي حفيظ بن غولة التي لم تكن تعرفه بل تسمع عنه فقط مثل أي شخص آخر.
لكن ولتجنب تعرضها للتعذيب أكثر مرة أخرى وافقت على العقد المقترح من طرف جلاديها ويكمن هذا العقد في الظاهر في البحث عن والدها وشقيقها في ربوع القطاع وتقديم تقرير عند العودة، لقد سلمتها الشرطة رخصة مرور كان عليها استظهارها للعساكر عند الضرورة ولكن ليس للمجاهدين.
وكانت كعولة تونس تعرف كل هذا واعلمت القطاع به، لقد وقعت هذه المرأة بين يدي المجاهدين الذين كانوا قد تلقوا رسالة كعولة تونس عنها.
تم توقيفها وكلف سي حفيظ بن غولة احدى المناضلات بالإبقاء عليها في احدى الغرف ونزع ملابسها والبحث عن رخصة المرور التي كانت تحملها بالفعل ومن تم جرى تحويلها نحو السلطات العليا.
الفصل الثاني والعشرون
كان عدوان علي، عامل في مزرعة بيازا، المكان المسمى بالكيلومتر الثالث، تعرض لأبشع الانتهاكات المذلة ولكنه مدفوع بالحاجة والبؤس، تقبل بصمت الإهانة من معمّر كان يعامل عماله بصفاقة ويسمعهم كلاما قبيحا، فاحشا وساقطا ويتصرف كوحش في بلد محتل، ثم جاءت الثورة التي ولدت من رحم 125 سنة من القهر والاحتقار.
اختار عدوان علي عندئذ الصعود الى الجبل وهو ما سيعيد له الثقة في نفسه، عزته وانسانيته وقد استعاد الآن جاليته وكرامته وإمكانية الانتقام من وضعه.
إن كل ما في الثورة من سحر هي أنها أعطت منذ لحظة اندلاعها سببا للعيش ومعنى للحياة ليس للمجاهدين فقط بل لجميع السكان الملتزمين.
فمن من بين الجزائريين من لم يشعر بهذا الفخر الكبير لرؤية المجاهدين وههم بلباسهم الجديد الخاص بقوات المظليين.
ويتعلق الأمر بـ علي عدوان الذي طلب التطوع للتخلص من صاحب المزرعة الذي تعرض لفترة طويلة للإساءات والاحتقار من طرفه.
كان يراقب ذلك المعمّر لعدة أسابيع لمعرفة تحركاته، أوقات مروره وأفضل الأوقات الأكثر ملائمة للقضاء عليه.
وعندما حانت للحظة، لم يترك له أية فرصة موجها له عدة رصاصات في الجسم وهو الرجل القوي وصاحب الجثة الضخمة، مما جعله يركب سيارته والسير بسرعة فائقة الى غاية اول مركز للمراقبة، صارع الموت للحظات قبل أن يلفظ أنفاسه وسط العساكر الذين حاولوا تقديم الإسعافات الأولية له.
كانت تلك الثورة: ارسال رسالة للعساكر والمعمرين أنهم ليسوا آمنين منذ تلك اللحظة في أي مكان حتى في بيوتهم وابوابها مغلقة بأحكام.
الفصل الثالث والعشرون
قبل تعيين سي حفيظ بن غولة رئيسا للقطاع، جرى التداول على أعلى مستوى في المنطقة التي يتبع لها القطاع من أجل الاختيار بينه وبين حسين بن زغوان.
وكان أحد المسؤولين في المنطقة قد تنقل لمراقبة ما يتم في القطاع الرابع ولكن أيضا للاتصال مع الشخصين المعنيين.
وكان يريد تأسيس خياره دون أن يفصح عن ذلك على الجوانب الملموسة في شخصيتهما ولاحقا حول سلطتهما الحقيقية لدى رفاقهم ومدى قدرتهما على تسيير قطاع صعب وخطير.
وكان فريخ حميدة هو الذي كلّف بهذه المهمة، حتى أنه طرح على سي حفيظ بن غولة سؤالا يدخل ضمن المحرمات ويتمثل في معرفة رد فعله إزاء حدوث تجاوزات ضد النساء سواء كم مجاهدات أم مجرد مواطنات؟ وكان رد سي حفيظ بن غولة، أن هذه الحالة لم تطرح ولن تطرح كونه يعرف النساء والرجال على حد سوا.
فقد كان الجميع رجالا ونساء على دراية تامة بخطورة المسألة وأن الهدف الذي نسعى اليه أكثر نبلا من الأنانية الفردية.
لقد نزل الرجال الثلاثة (فريخ حميدة، حفيظ بن غولة، حسين بن زغوان) في جولة خاطفة وجريئة الى وسط المدينة لمعاينة طريقة تنظيمها بالعين المجردة.
وكان في استقبالهم، شربال يوسف الذي ينحدر من بجاية، المجاهد منذ الساعات الأولى للثورة، على علم بكل ما يجري في المدينة
كما كان على اطلاع جيد بنوايا ومخططات جميع ضباط العدو وهكذا لعب دورا رئيسا في المعلومات التي تقدم لمسؤولي القطاع الرابع.
لقد ألبسهم الزي النسائي، الحايك والعجار وقاموا بزيارة مختلف زوايا المدينة على متن سيارته دون لفت أدنى انتباه.
لقد قضوا ليلة كاملة لدى بن خلاف بلقاسم وعادوا في اليوم الموالي الى قاعدتهم.
لقد كانت للجميع نظرة ملموسة ودقيقة حول تنظيم تأطير المدينة من طرف مناضلين متمرسين وبعد ستة أشهر لاحقا، عيّن سي حفيظ بن غولة رئيسا للقطاع وكان ذلك في 1960.
الفصل الرابع والعشرون
بعد تعيينه على رأس القطاع، فكر سي حفيظ بن غولة بداية في إعادة تنظيم الكفاح حول مدينة جيجل من أجل تنسيق أكبر بين مختلف العناصر بهدف تحقيق فعالية أكبر بين مختلف الفروع التي يتكون منها القطاع.
كان يعرف بعد القطاع بأكمله وجميع المجاهدين الذين ينشطون داخله، ومع ذلك كانت له أفكاره واستراتيجيته الخاصة به.
وخلال شهر رمضان للعام 1960، قرر سي حفيظ الدخول سرا الى المدينة وكان مرفوقا بـ بوبزاري مكي، كجة مسعود المدعو القناص ومحمد عسعوس.
وفي المدينة انتظموا بسرعة حيث أقاموا مخبأ في إحدى مستودعات الفلين الكائن في شارع سويسرا الذي يعود لصاحبه لهتيهت.
وكان المخبأ الثاني هو المنزل الخاص لمالك المستودع الأول نفسه لهتيهت مولود الكائن في لكريط .
وكان المناضلون الذين تم الاتصال بهم على الفور هم: باها رشيد، رولا بشير، لهتيهت مولود، براهيم حاجي، عبد القادر ومحمد بن الزرب. لقد تم استدعاء هؤلاء المناضلين بطبيعة الحال على انفراد وكان لكل واحد منهم مهمة فردية، كما لم يكن من الضروري أن يتعارفوا فيما بينهم لدواعي أمنية.
وتم خلال هذه الزيارة الخاطفة تعيين رؤساء الاحياء وهيكلة كل حي على حدة واناطة مهام جديدة محددة (الاستعلامات والتموين بالأغذية والأدوية وكان دورهم سياسيا أيضا وهكذا كان يتعين اقحام السكان بقوة في الثورة.
وهكذا بعد هيكلة الأحياء، أصبح على ر أس القطاع الذي يحتاج الى المشاركة الفعالة للجميع، رجل يتمتع بالمصداقية والشجاعة والحصافة.
استغرق كل هذا العمل الدؤوب فترة طويلة وأصبح بعد ذلك الحين لكل مسؤول قطاع نظرة محددة وواضحة.
فقد بقي المجاهدون الثلاثة 24 يوما في المدينة من أجل القيام بعمل إعادة الهيكلة تلك.
وعلاوة على هذا العمل، أراد سي حفيظ بن غولة ورفاقه تسجيل مرورهم بالمدينة وترك بصماتهم.
لقد وضع بين شارع الصديق بوريدح وطريق سويسرا، قنبلة في شكل قذيفة مفخخة، لكن وبينما كانوا ينتظرون انفجارها، اكتشفها ثلاثة عساكر عن طريق المصادفة.
ومع ذلك تجسدت أمنيتهم، إذ قام بوبزاري الموجود في المخبأ المجاور بإطلاق النار على العساكر الثلاثة، سقط منهم اثنان في عين المكان وتمكن الثالث من الإفلات.
وعلى إثر هذه العملية تم الحكم على سي حفيظ بن غولة بالإعدام غيابيا في محكمة قسنطينة، فلماذا سي حفيظ وحده؟ لأنهم سمعوا كثيرا عن كمائنه القاتلة وبسالته.
وتجدر الإشارة أنه من خلال هذه المهمة فقط، استطاع ان يرى زوجته في منزل في لكريط، مع العلم أنه متزوج منذ 14 جويلية 1957 ولم يراها ثانية سوى في 1962.
ومن بين التضحيات التي قدمها القبول بعدم رؤية عائلته وعدم التفكير سوى في الواجب نحو الثورة.
الفصل الخامس والعشرون
19 مارس 1962، إنها الفرحة التي عمت جميع انحاء التراب الوطني، فرحة تتناسب عكسيا مع المعاناة الرهيبة التي عاشها الجميع طيلة سبع سنوات ونصف من حرب بلا هوادة ولا شفقة حيث تمت معاملة الجزائريين مثل الهنود الحمر، إذ قادت فرنسا ضدهم حربا عنصرية سادها الازدراء الى حد كبير من أجل أرض هي ارضنا.
مجدنا الكبير هو أننا كرجل واحد أقسمنا على التضحية الى آخر رجل إذا لزم الأمر من أجل الحصول على حقوقنا فوق أرضنا.
ففي القطاع الرابع، القطاع الأكثر صعوبة في الإقليم، ما انفكت القائمة الطويلة للشهداء تتوسع يوما بعد آخر، قطاع قدّم للأمة أفضل أبنائه وهكذا تكون جيجل بالتالي قد التزمت الى حد بعيد بعقد المدينة الوطنية.
وعن الجانب الجزائري في الجبال كما في المدينة، إنه الطموح المجنون الذي لم تعشه الجزائر أبدا من قبل، لكن عن الجانب الفرنسي كان الأسف والحقد، حقد بسبب عدم تمكنها من الوقت للقضاء على جميع المجاهدين الذين لقنوها درسا في الشجاعة وقدوا لها الدليل على عدم قدرتها على اسكات الشجعان الذين يتحركون عند أنف ولحية المراكز العسكرية التي تطل على الدائرة الجهنمية التي يشكلها القطاع الرابع.
فمنذ وقف إطلاق النار، خرق القومية وعساكر المصالح الإدارية المتخصصة قواعد احترام وقف إطلاق النار، فقد استمروا في البحث عن المجاهدين الذين لم يتمكنوا من العثور عليهم طوال الوقت الذي استغرقته الحرب، لقد قلبوا القطاع رأسا على عقب رغبة منهم في انتقام سهل جدا.
وكان سي حفيظ بن غولة واحدا من الرجال المبحوث عنهم على الخصوص لأنه كان يعتبر دوما الأكثر خطورة.
ففي اليوم الثاني أو الثالث، كان في أحد المنازل في أولاد بوالنار وهو ملجأ سابق وكان هناك حفلا كبيرا جمع اصدقاؤه والمعجبين والمعجبات به كانوا يصلون في مجموعات للتعرف والاعجاب وتهنئة هذا الرجل الذي يدعونه السكان بو (الليالي) .
كان يسود في تلك الأثناء هرج ومرج ولم تكن الكمائن قد انتهت بعد عندما أعلنوا له عن وصول والده، خرج بسرعة ليشاهد شبحا، رجل يبدو من مسافة بعيدة وهو يسير منحنيا، ذهب لملاقاته، سقط الرجلان في أحضان بعضهم بعضا والدموع في عينيهما، الأب يبكي بفخر عودة ابنه متوجا بالمجد وسي حفيظ يبكي حنان الوالدين بعد سنوات عديدة من الغياب.
لقد كانت لحظة جياشة من تدفق العاطفة حيث بدأت القلوب تهدأ، وفجأة جاء من ينذر سي حفيظ أن نقيب المصالح المتخصصة sas قادم في الطريق رفقة شاحنتين معبئتين بالعساكر، ففي مثل هذه اللحظات يمكن أن نتعرف على الرجال العظماء.
خرج وكان يرتدي لباس المظليين ويحمل مسدسا في حزامه وعلى رأسه قبعة من القماش وكان قد نسي أن يأخذ بندقيته الرشاشة
، تبادل الرجلان نظرات معايرة وجد النقيب نفسه في مواجهة نقيب آخر جعله يبحث عنه طويلا وكنقيب في المصالح الإدارية المتخصصة اعتاد ان يحكم على الرجال لأول وهلة.
وسرعان ما أدرك أنه في مواجهة ضابط عسكري كبير لا يرقى الى كاحله، كما أدرك أن نظيره الذي كان أيضا مسؤولا يملك موهبة الحكم على الرجال من أول نظرة.
النقيب: هل تعرف أنه حسب القانون يجب أن تبقى في مكان تجمعكم؟
سي حفيظ بن غولة: طوال فترة الحرب كان مكان تجمعنا هنا.
النقيب يتفاجأ … هكذا يعني!
سي حفيظ بن غولة: لم نغادر هذا المكان، لكن اطمئن أننا نحترم وقف إطلاق النار ولن تخشون شيئا.
غادر النقيب المفتون بنفسه في حالة سعار دون أن يبدي ذلك بسبب تعرض كبريائه لضربة امام رجل ذي مكانة كبيرة يسمونه حفيظ بن غولة وهو يقمع غيضه بصعوبة.
وبمجرد مغادرته، افترق جميع المجاهدين الذين كانوا حاضرين حتى لا يعطوا العدو على الرغم من وقف إطلاق النار، الفرصة لإشفاء غليله بعد أن أمضى سنوات في البحث عنهم دون جدوى.
وبالفعل، عاد عساكر العدو بعد فترة وجيزة ولكن هذه المرة بترتيبات عدائية ولم يجدوا أحد.
وهكذا أطلقوا العنان لغضبهم وشتائمهم للمدنيين، خربوا عجين المنزل وألقوا بالدقيق والزيت على الأرض وغادروا في حالة غضب.
هذا ولم يكن بعض المعمرين والعساكر والضباط راضين عند الاعلان عن وقف إطلاق الأمر الذي يعني فشلا ذريعا وشعورا بمرارة كبيرة بالنسبة لهم.
لقد أرادوا على الرغم من التسوية، إطفاء عليل كراهيتهم قبل مغادرتهم ببضعة أشهر من الاستقلال.
إن ترك الجزائريين يحتفلون تعبيرا عن سعادتهم يشكل بالنسبة لهم وصمة عار يصعب هضمها.
تأليف على بوجدير/ ترجمة جناح مسعود
يتبع……