جيجل مدينة الوطنية في قلب النار
الجزء الثامن:
الاستعلام هو مفتاح الحرب وخاصة بالنسبة لحربنا التي لم تكن حربا تقليدية.
ماهي تحركات العدو، نواياه ودوافعه ونصب كمائن فعالة له، معرفة أوقات تحركات قوات العدو، المعرفة التامة بميدان الكمين وتحديد ظروف الهجوم وأماكن الانسحاب.
تولى سي حفيظ بن غولة ولمدة طويلة هذه المهمة ضممن أعضاء القطاع الرابع.
وكانت الاتصالات والاستعلام على الدوام بمثابة النقطة القوية في نشاطاته، فقد كان يعرف التوقيت الدقيق بفارق دقيقة لتحركات عساكر العدو.
وذات يوم اقترح على قائد القطاع نصب كمين لقافلة عسكرية كانت تحتفل كل مساء في المدينة وتعود الى قاعدتها في حدود الحادية عشر ليلا.
كان قائد القطاع مترددا وقال (كيف علمت ذلك أنت، رد عليه سي حفيظ بن غولة بندية: لست مسؤولا عن الاتصال والاستعلام بلا طائل).
تفقا ووضعا و وضعا الخطة التكتيكية المناسبة للضرب بقوة والانسحاب بدون مراوغة وهي خطة تكتيكية ناجحة دوما .
وكانت ستتم في المكان المسمى لاكريك وبالضبط قبالة المحجرة وهي موجهة لقافلة تتكون من سيارة جيب وشاحنتين مليئتين بالعساكر معظمهم في حالة سكر بعد أمسية توالت فيها الكؤوس.
اتخذت المجموعة المدربة على الفور مكانها ومرة أخرى يعود الدور الرئيس الى كجة مسعود (القناص) والذي كانت مهمته تكمن في تقليص سرعة الشاحنتين من أجل عزل سيارة الجيب المخصصة عادة للضباط.
وكان يجب منع الجنود من الرد وحتى الترجل من الشاحنتين الى الأرض وعدم ترك أية فرصة لهم سوى الاحتماء.
وعندما حان وقت الشجعان، كان كل واحد في مكانه، سمعوا من بعيد هدير الشاحنة وهي تقترب، بدأ سي مسعود القناص العمل في الوقت المناسب وتم وقف الشاحنتين تماما، فوجئ العسكريون بتلك الجرأة وقوة إطلاق النار، بينما كان حماس المجاهدين في قمته، توقفت سيارة الجيب وتعرضت لوابل من الرصاص في ليلة ظلماء بينما كانت الرشاشات تقذف النار من جميع الجهات نحو الهدف.
لم يدرك العساكر ماذا حدث لهم بفضل الليل الذي كان في صالح المجاهدين الذين تعودوا على الرؤية حتى في الظلام، ساد بعد ذلك دعر كبير لدى العساكر.
إنه الوقت الذي اختاره المجاهدون للزحف واجتياز الطريق وتسلق التلة والاختفاء بسلام في السفوح والغابة.
ففي تلك اللحظة فقط، استفاق العساكر من حالة الدعر وبدأوا في إطلاق النار بصورة عشوائية وعمياء لمدة طويلة بلا جدوى.
فلم يتمكن العساكر من رؤية أي مجاهد، لكن العملية لم تكن قد انتهت بعد، إذ وصلت عزيزات قامت برش الأماكن المجاورة بوابل من الرصاص بدون فائدة حتى انهم استقدموا نصف مقطورة بسلاحها الشهير 17/12 وبشاحنات أخرى موجهة خصيصا لنقل القتلى والجرحى.
وعلم المجاهدون أن الهجوم قد تسبب في اضرار وفي الكثير من الكوابيس للعساكر الذين يعتقدون أنهم يتجولون بمنأى عن العقاب.
الفصل التاسع
لقد سبق لنا أن تحدثنا مطولا عن مزايا ومخاطر المخابئ التي بدونها ما كان لمجاهدي القطاع الرابع أن يقوموا بما قاموا به واصابة عساكر العدو بالرغم من امتلاكه للوسائل الأكثر تطورا في حلف شمال الأطلسي.
ففي ذلك الفخ الذي يشكله القطاع الرابع المحاط بالمخيمات العسكرية، كان يتعين إيجاد مقاومة ملائمة بأي ثمن.
فقد كانت تلك الحلقة الجهنمية مزروعة بالمخابئ التي يلجأ اليها المجاهدون للاستراحة وفي كثير من الأحيان بالتواطؤ مع الخيرين من السكان ولكن بمرور الوقت أدرك العسكريون الاستراتيجية.
لكن ولأنها كانت حربا بلا هوادة مع كل الرعب الذي يمكننا تصوره مع التعذيب واحتمال الوشاية بها، أصبحت المخابئ أيضا خطرا، فقد كان وراء مخيم الجدّة مزغيطان، مجاهدان في إحدى المخابئ وهما بن حليمة أحسن وبوالشعير قدور.
اكتشف العساكر المخبأ، قاموا بتطويقه واشترطوا عليهما الخروج وأيديهما مرفوعة، انتظروا لحظة وكرروا النداء، لكن المجاهدان رفضا، إذ أن بالنسبة لهما إما أن تقتل أو تموت، رمى العساكر أول قنبلة لكن بن حليمة أعاد القاءها بشجاعة كبيرة على العسكر مما تسبب في قتلى وجرحى ودعر بين العساكر الذين هربوا في جميع الاتجاهات وهكذا اغتنم بن حليمة أحسن الفرصة والاختفاء.
وعندما تخلص العساكر من هلعهم، القوا قنبلة ثانية، امسك بها بوالشعير قدور من أجل إعادة توجهيها نحو العساكر ولسوء الحظ انفجرت في وجهه وعلى الرغم من هذا وكونه لم يكن يرى شيئا، حاول الفرار واستطاع المرور لكن العساكر شاهدوا هروبه وتتبعوا آثار الدم ومع ذلك استطاع الابتعاد عنهم، لكنه كان متعبا، اختبأ وبقي ينظر وبعد وقت قصير، سمع لغط وصوت العساكر الذين كانوا يتتبعون أثره، أطلق النار باتجاههم عشوائيا ولأنه كان معوقا تمكنوا منه، فالحل الوحيد بالنسبة اليه هو أن يموت بدلا من أن يمسكوا به حيا.
وفي جميع الحالات وبالنسبة للمجاهدين، كان ذلك الحل هو المأمول، الموت في ميدان الشرف وبذلك قدوا درسا لفرنسا وللعالم أجمع، ذلك أن مجاهدينا كانوا يقاتلون بشجاعة ويموتون بشجاعة.
الفصل العاشر
قرر سي حفيظ بن غولة ورفاقه تلغيم الطريق الذي يمر به نقيب المصالح الإدارية المتخصصة ( sas ) في الشمايم والمقاصب.
كان الوقت ليلا وكان أحسن بن مخلوف مرشد مجموعة الكوماندوس الصغيرة، عسعوس محمود، حفيظ بن غولة، شابوني ادريس متبوعا بـ شكيرين أحمد وحليمي أحسن وراءه يحمل فأسا ثم بلحامي (رويبح محمد) الذي يحمل قذيفة من عيار 105 ثم وصول بيرهوم يوسف أخيرا المسؤول عن أولاد عيسى.
ويتعلق الأمر بقذيفة محشوة بطريقة ذكية بحيث تشتغل آلية التفجير بصورة آلية عند مرور السيارة ليحدث الانفجار المدمر.
وكان المجاهدون قد نفذوا عدة مرات تلك الطريقة، لقد تمكنوا من القيام بكل شيء تقريبا بالحيلة والذكاء وخفة الحركة ورباطة الجأش والشجاعة والأيمان العميق بالقضية التي يدافعون عنها وقاموا بالثورة من أجلها.
ففي العام 1944/1945 ظهر الكاميكاز أو الانتحاري وفي فلسطين وقعت عمليات دموية وفي الجزائر كان هناك الفدائيون والمسبلون أي الذين يقبلون على الموت في سبيل جزائر حرة.
كان الوقت ليلا، ليلة مظلمة وهادئة على ما يبدو، تتقدم فرقة الكوماندوس الصغيرة وهي تتحسس وكلها أذان صاغية، تتقدم المجموعة بحذر لتلغيم الطريق قب طلوع الفجر. وفجأة سمع سي حفيظ نقرة نزع ابرة القذف مما يعني أن بندقية يجري حشوها بالرصاص، استدار نحو سي عسعوس الذي كان يحمل سلاحا من نوع ماط وقال له (ضع الرصاصة في بيت النار) وبالتزامن قام المجاهدان بإطلاق زخات من الرصاص على حافة الغابة حيث كان يترصدهم عساكر العدو وقد علمنا من بعد أنهم كانوا من القومية.
أحدثت الرشاشات ضجيجا مدويا ملأ الليل المظلم وعلى الفور بدأ الهروب لدى المتخفين ولكن أيضا لدى آخر الجنود في الصف وتحول الهدوء السائد قبل حين الى جحيم.
أطلق سي حفيظ وسي عسعوس زخات من الرصاص في اتجاه الغابة البرية وهما يتراجعان، لكنهما سمعا شابوني اريس يصرخ، أنا مجروح، أنا مجروح وبشجاعة عاد الرجلان على أعقابهما، اعطى سي عسعوس رشاشه الى سي حفيظ، أخد الجريح من يديه ورجليه ووضعه على كتفه وانطلقا ليلا بينما واصل سي حفيظ زرع الرعب والفوضى لدى القومية، فهل هناك قتلى وجرحى في صفوفهم، لا أحد يعلم ذلك فالوقت ليلا.
التحق سي عسعوس مع ادريس الجريح محمولا على كتفه برفاقهم الذين كانوا ينتظروهم في احدى المزارع.
لقد قرروا نقل الجريح الى مزرعة شابرية حيث يوجد مخبأ تحت الأرض داخل البيت الذي يسكنه برحال محمود وزوجته مع طفلة صغيرة تبلغ من العمر سنتين او ثلاث سنوات.
بقي سي عسعوس مع الجريح وذهب البقية نحو قواعدهم مع مطلع الفجر.
وفي اليوم الموالي عندما عاد سي حفيظ الى الاستعلامات اندهش لاكتشافه جريحا آخر، إنه أحسن بن مخلوف الذي أصيب بجروح خفيفة وأغمي عليه خلال الكمين ولم يكن يقوى على طلب النجدة، استعاد وعيه بعد وقت من ذلك جراء نسيم الليل وعلى الرغم من ذهوله وكونه لا يستطيع السير، قرر الالتحاق بمخبأ شارية زحفا.
فقد استطاع تجاوز كل الحواجز بالزحف دائما: الغابة والنهر، النتوءات، الحجارة الحادة، العليق الشائك، تحمّل جميع اشكال المعاناة لتفادي العسكر في الصباح.
ركبتاه مدميتان، الذراعان والمرفقان مسلوختان والعظام بارزة، لكنه كان على قيد الحياة وفي حالة وعي تام حيث أخذ مكانه في المخبأ.
أرسلنا متطوعين الى المدينة للبحث عن الادوية اللازمة من اجل اعطاؤه العلاج الملائم، مرت الأيام وتعافي المصابون من إصاباتهم ببطء.
وتجدر الإشارة الى ان سي ادريس أصيب في كعبه إصابة بليغة لكنه شفي بفضل رعاية رفاقه الذين لم يفارقوه أبدا وذات يوم قالت له امرأة يناديها سي حفيظ خالتي، إن هناك اشتباكا في جهة شابرية، اختفى على الفور وراء تلة وهو يشاهد المأساة بلا حول ولا قوة، فماذا عساه أن يفعل في مواجهة اسراب من القومية والعساكر بقيادة النقيب.
ففي بداية الأمر كان الكل يعتقد ان الأمر يتعلق بوشاية، غير أن سي حفيظ احتفظ برباطة جأشه وقام بالتحقيق، فقد أرسل امرأة يعرفها للقيام بزيارة الى أحد المجندين من اقاربها، لقد ربط سي حفيظ علاقات مع ذلك المجند الذي كان يرسل له من حين لآخر كميات صغيرة من الذخيرة.
وتجدر الإشارة أن تلك العلاقات لم تكن شخصية، فقد كان سي حفيظ يتكلم باسم الثورة ولم ينطق باسمه على الاطلاق.
فقد أكد هذا المجند على عدم وجود وشاية، لقد خرج النقي مع رجاله في عملية تمشيط وفي لحظة معينة، توقف لإجراء مسح شامل لكل المحيط بمنظاره الى ان توقف نظره عند شاب بصدد قراءة جريدة.
طرح السؤال على رجاله، هل هناك أناس يعرفون القراءة في هذه المزرعة وقد اجابوه بلا، لم يهضم سمعه ذلك وقرر محاصرة المكان ووضعه بين فكمي كماشة.
بدأت المأساة تكتمل والخناق يضيق، وصل بالقرب من المزرعة وتقدم نحو المنزل وفي تلك اللحظة خرج سي عسعوس ليجد نفسه وجها لوجه مع القومية، أطلق زخة من الرصاص ليقتل ثلاثة منهم دفعة واحدة، خرج شكيرين على وقع الرصاص ليقتل آخرين هو الآخر وعلى الفور بدأ الجحيم، وصلت النجدة بما في ذلك الهليكوبتر برشاشاتها، قاتل شكيرين وسي عسعوس مثل الأسود، لكن عدد العساكر كان كبيرا جدا لتقضي عليهما الهليكوبتر الواحد بعد الاخر.
وفي تلك الأثناء كان الجريحان شابوني ادريس وسي أحسن بن مخلوف يشاهدان المرأة وهم عاجزون عن فعل أي شيء.
اشتم النقيب شيئا ما، ذلك أن هذين الجنديين ليس هنا مصادفة وعندئذ بدأوا في البحث عن المخبأ، بحثوا في كل مكان ولم يجدوا شيئا أصيبوا بغضب أسود ليقوموا بإشعال النار في المنزل مما أسفر عن هلاك أربعة اشخاص اختناقا بالدخان داخل المخبأ.
أصيب سي حفيظ بحالة حزن شديد وبعد بضعة أيام، توجهت امرأتان الى تلك الجهة من أجل الاحتطاب، قامتا بتفتيش الأنقاض وعثرتا على جثث متفحمة لأربعة رجال.
لاحظت احداهن وجود سن من الذهب في فك أحدهم، فأبلغتا سي حفيظ بذلك مما جعله يتذكر أن الأمر يتعلق بـ شابوني ادريس.
ففي خضم الارتباك العام جراء إطلاق النار من جميع الجوانب، هرب السيد برحال واصيبت زوجته في الذراع وقتلت ابنتها الصغيرة برصاصة في ذراعها.
واصل سي حفيظ بن غولة لمدة طويلة بعد الاستقلال رؤية الكوابيس في منامه حيث كان يرى صديقه شكيرين واقفا أمام مقهى صدام حسين حاليا يشتكي من عدم تدخله وسي حفيظ يعتذر على عدم قدرته على القيام بذلك.
تأليف على بوجدير/ ترجمة جناح مسعود
يتبع…..