
أن المتابع لأوضاع الوطن العربي من شرقه الى غربه ومن شماله الى جنوبه، يتبين بيسر، توطُّن التفكك والتشرذم السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي والثقافي، وبطبيعة الحال هو وضع لم ينشأ من فراغ، وإنما كان نتيجة لعوامل كثيرة في مقدمتها سلوكيات موروثة عن أطماع الدول الغربية، وترسخت مع ازدهار الظاهرة الاستعمارية في موجتها الثانية خلال القرنين 19 و20، والتي كان دافعها الأساسي عقائدي ايديولوجي فضلا عن الرغبة في الهيمنة الإستراتيجية؛ على الأسواق والمواد الأولية وتطلعهم الى آفاق جديدة نظرا لضيق أراضيهم وشيوع الاقتتال بينهم..
لقد ظل الاستيطان يتوسع بذريعة الإعمار والمهيمنة الشاملة تارة، وبدوافعه أيديولوجية دينية وعنصرية، كنشر الثقافة الغربية والدين المسيحي تارة أخرى. ضمن منظومة قائمة على ادعاء التنوير ونشر الحضارة والقيم الإنسانية الراقية (…؟) ففي الظاهر تعتمد آليات تقوم من خلالها بهدم أجزاء من المدينة وبناء أخرى، لتمكينها من التحكم بحركة المدينة وسكانها وربط فئة منهم وعزل أخرى عن غيرها، والخفي منصب على هدم الأخلاق وتشويه القيم واستبدالها بما يناسب خدمة الاستعباد؟!
ولما كان مطلب التحرر يقتضي العمل المسلح وسيلة إلى التحرر والانتقال من الاستعمار إلى الاستقلال، فإن مطلب التغيير بعد الاستعمار سيظل حتميا للتخلص من آثار الفكر الاستعمار ي، غير أن الظروف المحيطة بأمتنا سياسيا وعسكريا واقتصاديا خلال العقود الأربعة الأخيرة.. حالت دون تحديث أساليب المقاومة السياسية للتخلص من البقايا الاستعمارية، الفكري منها والعقائدي.
فسياسات ما بعد الاستقلال لم ترق الى مستوى التصدي الثقافي فحسب، بل رسخت في النفوس وفي القلوب جهل أصحابها وصبغت الحياة بصبغتها حتى صار من الصعب على الإنسان فردا كان أو جماعة أن يتخلص من منها.. هي سياسة جعلت من المحسوبية، والعشائرية، وادعاء التعددية الثقافية مراكب في المسارات العكسية للحرية والديمقراطية.
مما لا شك فيه أن القارئ الكريم سيتبادر الى ذهنه على وقع ذكر أطماع الدول الغربية أنني أمهد للحديث عن المعاركَ العسكرية الكبيرة الدامية التي دارت في وطننا عبر العصور وأجعلها شماعة أعلق عليها غسيل أمتنا.. لا، أبدا، رغم أنى على يقين من أن وطننا العربي عامة ووطني الجزائر على وجه الخصوص مازالت تتربص به قوى داخلية وخارجية كثيرة وتحاول دفع مسيرتنا الى الخلف. ومن المعروف اننا تعثرنا، وقد نتعثر ثانية لكننا لن نعود أبدا إلى مهازل ماضينا مادامت الجزائر مسكونة بروح أبنائها الحقيقيين بالوطنية، وقلوبهم عامرة بالإيمان الصادق وميراث الاسلاف وحب التضحية، عامرة بالهمم فلن تسقط في فخ العبثية القبلية أو تسخير الهمجيات العصبيات وروابط الدم لضمان الولاءات.. وتحصيل رخصة المرور في الاستحقاقات على حساب العدالة ودمقرطة الحياة.
ومن نافلة القول؛ علينا ان نتذكر أن هناك معاركُ أقوى وأعتى عاشتها البشرية، ولكن من دون سيوف أو بارود ونار.. تلك هي معارك عقل الإنسان مع ذاته، ومع الطبيعة، وفي مواجهة الجهل.. صحيح أن المعارك المسلحة التي سفحت فيها الدماء عبر حقب وازمنة متلاحقة وامكنة عديدة من وطننا الحبيب، قد تركت بقعا على صفحات تاريخنا، لكن زال منها الكثير واندثر، غير أن المعركة التي لم تنتهِ بعد وانطبعت آثارها في النفوس، هي معركة عقل الإنسان الجزائري المتصلة مع ذاته ومع الطبيعة ومع اعدائه، القديم منهم والجديد.
من هنا يطرح سؤال انكاري ملح هو: هل نحن حقا مستعدون لخوض هذه المعركة والتوجه نحو الأفضل بعد عامين من عمر الحراك المبارك؟! وهل نحن قادرون على الحفاظ على سلامة الحراك من كل العلل؟!
لا أسأل جوابا، لكنني أقول؛ عامان ونيف على ميلاد حراك 22فبراير2019م، الذي واجهته العصابة المتسلطة يومها ولا أقول السلطة بأسلوب تعدى كل الحدود، ووصل إلى درجة لا يقبلها عرف ولا يطابقها منطق، كونه أسلوب يهدف الى قلب الأدوار في المجتمع ويهدد بضرب استقرار البلاد- فهذا وزير أول مثلا مهددا المجتمع بالقول؛ ” قبول العهدة الخامسة والا تصير البلاد مثل سوريا.. مثل سوريا تحديدا ؟!” أعتقد ألا أحد يخالفني بانها دعوة صريحة الى التمرد والفوضى، والعبث بالبلاد وأرواح العباد. ولولا يقظة قيادة الجيش الوطني الشعبي، وحرص أشباله، والتحام الشعب بجيشه، في تصديه للمؤامرة، لوقع ما لا ينبغي أن يقع.. من السعي لكسر إرادة الشعب الجزائري باستعمال المال الفاسد ولعب ورقة النخبوية والقبلية، وتعريض المجتمع لعمليات الاذلال والاهانة على يدي المرتزقة مثل ما شاهدناه جميعا في الشقيقة سوريا، والعراق وليبيا واليمن مع الأسف.
إذن، هي عامان من عمر الحراك السلمي؛ فترة شهدت الجزائر خلال العديد من الأحداث عبر محطات غير عادية كانت جميعها تهدف إلى تغيير النظام السياسي- بما يناسب الاستقلال الحقيقي- مظاهرات ومسيرات، من الجمعة الى الجمعة. ومن الثلاثاء الى الثلاثاء.. قرارات ومقررات تخدم الانطلاقة الفعالة لمبادئ الحرية والعدالة والديمقراطية. ولعل اسقاط العهدة الخامسة هو ما أراح النفوس وأذكى ذلك الشعور بالكرامة الإنسانية، والتطلع إلى المزيد من الحريات، واضفى على النفوس الإحساس بالوطنية فكان التوسع التدريجي لدائرة المطالب في الاتجاهات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المختلفة خدمة لجزائر العهد الجديد؛ من المطالبة بتحسين الأحوال المعيشية، الى التصدي للفساد وإطلاق المزيد من الحريات السياسية.. والافصاح عن الحقائق التاريخية وكل ذلك في أطر سلمية حضارية اذهلت شعوب العالم.. وقد دفع تحول الأحداث العديد من القوى إلى تعبئة المواطنين ضد الفاسدين ومنطق الفساد. وساهم الرجال والنساء من مختلف الفئات، وفي مقدمتهم الشباب من خلفيات ومستويات تعليمية مختلفة، واعمار متفاوتة في المطالبات السلمية من أجل التغيير ومازالت المطالب فاعلة. والفضل في كل ذلك يعود الى ميزة الشعب الجزائري في مواقف بذل الجهود والتضحية واتباع سياسة الازدهار من اجل تجاوز الأزمات والمتاعب التي تهدد استقرار الوطن.
رويدك أيها القارئ الكريم.. تمهل، خذوني بصبركم… للقول أن السؤال عن الاستعداد لخوض معركة التوجه نحو الأفضل. سؤال أساسي ظل غائبا في مجمل ما جاء في تدخلات الأحزاب والجمعيات السياسية النشطة هذه الايام، ربما حصل التجاهل بفعل الإحباط الشعبي الموروث عن سياسة الفساد خلال العقدين الماضيين، وارتفاع التضخم ومعدلات البطالة، ومستويات الفقر، كعوامل يسبب جميعها مشقة كبيرة للمواطن، ويؤجج مشاعر المعارضة لكل مسعى، فتبني الاحتجاجات السياسية الواسعة. وزيادة الضغط على الفئات المتوسطة والضعيفة الدخل شكلت جوهر اسلوب التعبئة في مناهج المعارضة، وهي سياسة لايعتمدها الا دعاة التقهقر والانكسار…
هنا أفتح قوسا واسعا واغلقه وأقول: إن ما هو متداول في بعض وسائل الإعلام وخل الخطابات السياسية، والاقتصادية.. ومع الإقرار بما لهذه المجالات من الأهمية على مستقبل الوطن وإسهامها الحضاري وتعافيها من وابل الأزمات، تزداد أهمية تناولها. لكن من الواضح أنَّ النقاش يبقى فجا إذا لم يحظِ الإنسان بالأولوية في أجندة العمل السياسي كعنصر لا يمكن الاستغناء عنه.. لا اقصد بالأولوية تلك الوعود المادية لإغراء الناس فتلك ثقافة مردودة على أصحابها لأنها رؤية موروثة عن الاستعماري الكبير (الكاردينال لا فيجري.. وحكايته مع الفقراء والايتام).
أعتقد أنه من المهم إلقاء مزيد من الضوء على بعض المواقف السياسية وتحليلها بعمق أكثر، لتجنب سوء الفهم والحيلولة دون خبث التحيل.. وقبل ان اغلق القوس أود أن أنبه إلى أنني لا أنصب نفسي هنا أبـدا محاميا عن ساسة وقادة لا يعوزهم دفاع، ولا يحتاجون إلى مرشد.. عند القول: لا يظنن المطالبون بالعلمنة، وتأنيث المجتمع (وغالبا ما يفعلون عن جهلٍ بالمعنى والمرمى) أنهم الأوصياء على الفهم والوعي والادراك والحداثة. ففي الواقع حالات عديدة معاكسة. كما لا يظنن من ارتمى في احضان الفئوية والعشائرية أو الطائفية ويعتبر أن ما يراوده قدرا محتوما للجزائر؛ “انه أحق بالوطنية من غيره فيشيطن الرأي الآخر بذلك، ويجيش الناس عن ظلال.. وليعلم ان مسألة بناء جزائر العهد الجديد، ككل المسائل الوطنية هي مسألة تتطلب رؤية وحوار وظرف وتوقيت… ورجال ومشاركة جادة.. اوقفوا الخلط بين المفاهيم المختلفة في الشكل والجوهر. توقفوا عن الهراء، كفوا عن أذية الجزائر وشعبها، واقرأوا التاريخ لينبئكم أن ما دفع الأجيال للاستقالة من الشأن العام، والميل إلى الخلاص الفردي حتى صار منهم ضعاف النفوس يجترون كالبهائم. كل ذلك عبث قد عرض الشعوب العالم الثالث عامة وأبناء جلدتنا على وجه الخصوص لعمليات استلاب فكري وإذلال وإهانة لم يشهد مثلها في التاريخ الإنساني…انها موجة الهويات المتقوقعة، والمصالح الضيقة المتضاربة في مجرى الانتقال العالمي نحو تجمعات عرقية طائفية قبلية في اتجاه اعادة بعث العبودية بامتياز.. قبل أن اغلق القوس أذكر بأن:
العرقية أو الاستعراقية اعتقاد خاطئ لشخص، فالحكم على الآخر أو الترفع عن الجماعات الأخرى واعتبارها نوعا من غير نوع جماعته، يعد عاملا أساسيا في نشأة الصراعات العرقية والتعصبية التي غالبا ما أدت إلى نزاعات بلغت حد المذابح الجماعية والحروب الدامية.. اغلق القوس واعذروني ان أنا أطلت.
محمد بوكحيل